انتظريني قليلاً بعد يا أمي... سأعود...
على غيمة...
على نخلة...
على موجة...
سأعود...
أحص الورد في ببيتنا
تجديني قربك
عند المطرة الأولى
وعند الوردة الأخيرة
الدروب طويلة هنا يا أمي، ووجه الأرض شائك تحت قدميّ...
القلوب صغيرة هنا، وشفتاي مليئتان بالقبل...
الوجوه مستدقة هنا، والقمر هلال على يومي...
القامات قصيرة هنا، وعشب بيتنا يلامس السطح...
الأبراج عالية هنا، وشالك غطائي على الرصيف...
الطعام كثير هنا، ورائحة جبنك ذاكرة أنفي...
النساء كثر هنا يا أمي، ويداك مدفأتي...
قبل الرحيل هناك...
كم مرة شعرتُ بيدكِ قبل أن تلمسَ شعري لتوقظني من صحوتي ثم تدعوني لأنام...؟
أقول لنفسي:
" لن أنام، فلمن أترك كل هذا؟".
كم مرة شعرتِ بيدي قبل أن ألمسَ شعرك العاجي لأوقظك من صحوتك ثم أدعوك لتنامي...؟
وتقولي لنفسك:
\" لن أنام، فلمن أترك كل هذا؟! \".
لا أريد أن أنام والمشهد الذي تخيلته امامي كل يوم...
تلك الجموع السوداء متجمهرة على باب بيتنا
تبكي اختي وتنعي الطفل فيَّ...
أنت بجوارها جاثية...
وأقربائي على حافة الدرج الصاعد للسماء العالية...
وكي لا أرى كيف حملوها على أكفهم السمراء
مزغردين بلا اله الا الله عن وردة قطفت من الحارة
ليزرعوها في البعيد
والباقين عباءات سوداء
بوجوه رمادية.
كيف أنسى فتحة الألم في العنق.؟!
ونشيج الصوت بالكاد يخرج ...
منادييتاً إياك
وذهول الدكاترة؟!
وليالي المستشفيات
ورائحة المخدر
والعيون الحائرة ؟...
كيف أنسى القلم والمحبرة؟!
ودفتر الرسم الأسمر وخطوط الكلام
وبقايا الذاكرة...
كيف أنسى عيناها اللتان ودعتهما في المساء بتراتيل!...
وفي الصباح برنة هاتف جنائزية...
نفس السرير الذي ولدت عليه رحلت منه.
فهل أنسى هذا السرير؟
في الرحيل هنا...
كم مرة أبعد بيدي الليل؟
وأفتح ورقة بيضاء لشعاع قادم من بعيد ليستقر فوق المدينة الغريبة...
كم مرة أصحّي النوارس البحرية؟...
وأطيّرها فوق صوت المئذنة...
وأصنع لك بأصابعي قبلة
وأرميها من النافذة
علّها تصلك على جنح فراشة
أو غيمة شاردة
كم مرة أشرب قهوتي وحيداً ؟...
وأنثر الضوء
وعصافير السنونو
على عين القمر...
وأوقظ كل النائمين
الحالمين بالوصول إليه.
صوت المآذن
وأجراس الكنائس
صدى في أذني
انتظريني قليلاً بعد يا أمي...
سأعود...
إني كمنبهي مؤقت على لحظة اليقظة...
سأساعدك على غسل سجادة العيد
ومدفأة الشتاء...
وسأصلح لك خزانة عرسك
وأصبغ جدران الغرفة
للموسم القادم...
سأخيط ثوب زفافك العابق بذكرى الرحيل...
سنزور قبر أختي
وأعيد إليك ما ضاع منك...
سأقطف من شجرة الآكي دنيا
حبتان
واحدة لك
والثانية لك أيضاً...
سآخذ نوراً من بصري
وأهديه لعينيك…
كي نرتق ما مزّق منا
قليلاً بعد يا أمي... سأعود
وإن عدت...
وإن غفوت
فاتركيني - كرامة الله - لحظة قربك
ولا تنس أن تغطيني بعباءة والدي الصوفية.
لن أعبر للأمام هنا أكثر...
يقولون: \"من يركب البحر لا يخشى من الغرق\"...
لعمرك ركبت البحر خاشياً عليك من الغرق...
وسأعود حاملاً معي
الدفة
وشتلة حبق
وريحانة
وبعض من سماء
ومنزل أزرق
لا تجزع يا أمي
فما زلت مستيقظاً...
لن أنام
قبل أن أجلب لك
الفجر...
والخبز...
والفرح...
ونشرب سوياً قهوتنا الصباحية.