لا ننكر أن كل منا مازال يعيش في داخله ذلك الطفل الصغير الذي يحتاج للحنان والاهتمام وأن هناك لحظات ضعف وانهزام يعيشها الإنسان مع نفسه يشعر فيها بالملل والضيق ويحتاج إلى من يبثه آلامه وأحزانه ... ونادراً ما يجد من أصدقائه أو أقربائه من يمتلك الوقت والصبر لسماعه أو الوقوف إلى جانبه
في تلك الفترات الحرجة التي يصبح فيها الإنسان أشبه بالغريق الذي يبحث عن أي قشة ليتعلق بها ..... رغم أنه يعلم علم اليقين أنها لن تستطيع أن توصله إلى بر الأمان...!
لذلك يلجأ إلى تخطي حدود محيطه والبحث عن أصدقاء جدد في أماكن أشمل وأكبر من حدوده الضيقة .. وقد جذبت هذه الهواية الكثير من الشباب والشابات وخاصة من هم في سن المراهقة ....
والكثير منهم يجدون متعة كبيرة في الاندماج بهذه اللعبة كونها تعطيهم مساحة واسعة للهروب من الواقع والاسترسال بالحلم طالما أن الطرف الأخر لا يعلم شيئاً عن واقعهم فيحركون خيوطها حسب مزاجهم
.... ولكن الأمر ( في كثير من الأحيان ) قد يخرج عن حدود السيطرة عندما تبدأ اللعبة بأهداف بسيطة وتسلية مؤقتة ثم تنتهي بعلاقات واسعة وقصص مختلفة ..... وربما جروح لا تندمل ...!
هي لعبة خطيرة أشبه باللعب بالنار ....كل من يدخلها لابد أن يصبح أول ضحاياها ...أنه إنسان يفتقد إلى عنصر من عناصر الحياة الطبيعية .... فمنهم من يحتاج إلى حنان ، وآخر ينشد الحب ، وغيره يريد الهروب من الملل والضجر فيكتشف أن هذه اللعبة فيها الكثير من المغامرة والإثارة واكتشاف المجهول
والعيش في أجواء الحظ والصدفة .... وآخر يريد أن يعيش قصة من قصص ألف ليلة وليلة ويتخيل نفسه شهريار ويبحث كل يوم عن شهرزاد جديدة .....!
لقد أصبحت هذه اللعبة بؤرة مناسبة لولادة قصص حب عقيمة وصداقات مشوهة ... شعارها الكذب والتلون بألوان النفاق والخداع المتعددة ....والتي تبدأ من اللحظة الأولى للدخول في هذه المتاهة عندما يطلب منك الاسم والعمر والجنس فيصغر الكبير ويكبر الصغير ويصبح الذكر أنثى والأنثى ذكر ... أسماء وألقاب مزيفة تبدأ بها خيوط اللعبة ... ثم ما تلبث أن تتشابك فينتج عنها عشرات المسجات .... وتقوم شركة الاتصال بدور رسول الغرام الذي يوصل تلك الرسائل بأمانة ودون الخضوع لأي رقابة ( احتراماً لخصوصية عواطف المراهقين ) التي يغلب على أكثرها الطابع السيء بالألفاظ وعدم الصدق بالنية .... وقد تصادف أن تغمز السنارة برسالة جادة يليها طلب التعارف عن طريق تبادل الأرقام والاتصال المباشر دون وساطة مرسال الغرام ... وهنا وبعد أول كلمة ألو .... تنهال على المستمعة كلمات الحب المجنون والإعجاب المزيف بصوتها الموسيقي ذو اللحن العذب ويتخيل الشاب أنه وجد فتاة أحلامه وتدور أحاديث متنوعة منها ما يدخل في إطار الجد .... وتأخذ اللعبة طريق الترتيب للقاء المنتظر كمقدمة لعلاقة ارتباط جدية ( ويجب أن لا ننسى أننا نعيش بعصر السرعة ) .... وفي الطرف المقابل يسلك الموضوع طريق اللهو والتسلية والاستهزاء والمزاح اللائق أو الغير لائق .... ولكن الطريقان يلتقيان بالنهاية عند نقطة لقاء الأحبة وبعد ترتيب مواعيد اللقاء.... قد يسافر أحد الطرفين من بلد لأخر للقاء هذا المجهول الذي رسم له بخياله أجمل الصور .... ثم تأتي اللحظة الحاسمة وتنكشف الحقائق وتصحو الأوهام من غفلتها ... وماذا يحدث لحظة اللقاء ؟
..... اللقاء يجر صدمة تعقبها صدمة...! نعم إنها صدمة الشكل الذي لا يطابق الصوت ... فكل ما رسمه أحد الطرفين بخياله ينهار أمام أول نظرة
... هذا بالنسبة للشكل ... أما باقي الصدمات فتأتي تباعاً بعد أن تنكشف سحابة الأكاذيب التي صنعتها مخيلة كل منهم .... وينتهي اللقاء وينتهي معه الحلم ويعود كل منهما للبحث عن حلم جديد .....!
ويكتشف أن العشق أكبر وأسمى من أن تدركه الأذن قبل العين ... خلافاً لما تعلمه من أسطورة الأذن تعشق قبل العين أحياناً ....
فكثيراً ما جذبتنا أصوات وأبعدتنا أشكال حامليها .... وكثيراً ما سحرتنا أشكال وصدمتنا أصوات قائليها ....
فالشكل يجب أن يتكامل مع الصوت لتكوين هوية حاملهما لأن في انفصالهما يطلق العنان للخيال ليرسم ما يشاء في دنيا الأحلام وغالباً ما يستيقظ على واقع مختلف ....
فالحب هو حقيقة وليس أسطورة من أساطير الأوليين
إنه روح وإحساس ، قلب وقالب ، شكل ومضمون ، وأشياء كثيرة تمتزج لتصنع منه كياناً متماسكاً وليس مجرد أكذوبة تنقلها أسلاك الهاتف أو رسائل الدردشة .... !
فإذا كان هناك فائدة وحيدة لهذه اللعبة فهي لا تتجاوز الفائدة المادية التي تجنيها تلك الشركات من اللعب بقلوب تائهة تبحث عن حلم
.... وكل ما حصلت عليه هو ثمن لهذا الحلم ....! فقد أصبحنا بزمان يباع فيه كل شيء حتى الأحلام