الجامع الأموي
في دمشق
يقع في قلب مدينة دمشق القديمة ، ويعد مـن أهم المنشآت المعمارية العامة في الحضارة الإسلامية .
ومن المؤكد أن أرض الجامع كانت مخصصة للعيادة منذ مئات السنين ، فكان يقوم في المكان نفسه معبد للإله حدد الأرامي وذلك في مطلع الألف الأول قبل الميلاد ، وفي العصر الروماني بنى معبد للإله جوبيتر على أنقاض معبد حدد الأرامي . وبعد انتصار المسيحية على الوثنية أنشأ الإمبراطور تيودوسيوس كنيسة داخل المعبد على اسم القديس يوحنا المعمدان .
وبعد الفتح الإسلامي عام 14 هـ / 635 م اقتسم المسلمون هذا المعبد الكبير مع المسيحيين ليقيموا الصلوات فيه ، وأقام المسلمون مسجدهم مستقلاً عن بناء الكنيسة يجمعهما سور المعبد . وبقي المسلمون والمسيجيون يؤدون فرائض دينهم متجاورين حوالي سبعين عاماً حتى عام 86 هـ /705 م حين تسلم سدة الخلافة الأموية الوليد ابن عبد الملك حيث جرت مفاوضات مع الرعايا المسيحيين لكي يتنازلوا بالعدل والرضا والطرق المشروعة عن نصف المعبد الذي أقاموا عليه كنيستهم ، وتم ذلك مقابل بناء كنائس جديدة في أماكن مختلفة من مدينة دمشق .
وقد هدم الوليد بن عبد الملك بناء الكنيسة وكل ما كان داخل جدران المعبد من منشآت رومانية وبيزنطية ، وأشاد الجامع وفق مخطط مبتكر ، يتلاءم مع شعائر الدين الإسلامي وأغراض الحياة العامة فجاء فريداً في هندسته ، وقد شيدت المساجد الكبرى في العالم الإسلامي فيما بعد على نسقه ، وظل المعماريون يستوحون منه قروناً طويلة .
استغرق بناء الجامع الأموي قرابة عشر سنين بدءاً من ذي الحجة عام 86هـ / 705 م وقد جند الخليفة الوليد خلالها عدداً ضخماً من البنائين والمهندسين حتى كان فتنة للناظرين ، ووضعت على نسقه هندسة الجوامع الكبرى في العالم .
وقد وصف الجامع عدد كبير من المؤرخين والعلماء العرب والأجانب ، فكان في غاية الإبداع والروعة والجمال وَعُدَّ بين أعاجيب الدنيا ، فكان أول آبدة عربية إسلامية وإحدى أشهر العمائر في العالم وقد وضع الفن الإسلامي والعمارة الإسلامية مبادئهما الأولى فيه ، وأصبح الجامع بعد انتهائه مدرسة للعمارة حاكاها المعماريون الذين أتوا بعده . يقول سوفاجيه عن الجامع الأموي : ( أول نجاح معماري في الإسلام ) وقد حافظ على عظمة بنائه وروعة زخارفة قرابة ثلاثة قرون ونصف ثم تعرض بعد ذلك للحرائق والزلازل ، وكان في كل مرة يصاب فيها بجهة من جهاته يفقد شيئاً من بهائه ورونقه حتى وصل إلى ما هو عليه الآن .
احترق الجامع أول مرة عام 461 هـ/ 1068 م ، وفي عام 562 هـ/ 1166 م احترق الباب الشرقي ، ثم أصابه حريق عام 570 هـ/ 1174 م امتد إليه من الكلاسة فأصاب مئذنته الشمالية ، وفي عام 645 هـ / 1247 م أتى الحريق على القسم الشرقي من الحرم والمئذنة الشرقية .
وعندما هاجم تيمورلنك قلعة دمشق عام 804 هـ /1401 م نصبت الآلات الحربية في صحن الجامع لمهاجمة القلعة فلحق به حريق وتخريب .
وفي عام 884 هـ /1479 م شب حريق في الجامع أتى على المئذنة الغربية وباب الزيادة والباب الغربي والرواق الشمالي حتى الكلاسـة ، وكان آخر حريق له عام 1311 هـ / 1893م في أواخر الحكم العثماني تهدم فيه حرم الجامع الداخلي .
أما الزلازل فكانت كثيرة أشدها حدثت في أعوام 552 هـ / 1157 م و 597 هـ / 1200 م و1173 هـ / 1759 م .
وكان يتلو هذه الحرائق والزلازل دوماً إعادة تشييد وبنـاء ، ومحاولة إعادة الزخارف إلـى ما كانت عليه . وقد أشار المؤرخون إلى سلسلة الترميمات وإعادة البناء عقب الكوارث التي أصابت الجامع ، وقد خلد ذكرى ترميم عامي 475 – 476 هـ / 1082 – 1083 م لوحان كتابيان محفوظان في المتحف الوطني بدمشق .
وبفضل الجهود التي بذلت من أجل ترميم وإصلاح ما تهدم منه بقي الجامع أثراً خالداً للحضارة الإسلامية .
مخطط الجامع وأقسامه المعمارية :
شكل الجامع مستطيل بطول 156 م وعرض 97 م . له صحن واسع ، وتقوم من حوله من ثلاث جهات أروقة محمولة على أقواس مستديرة . أما طرفه الرابع فمشيد عليه جدار الحرم الذي يبلغ طوله 139 م وعرضه 37 م .
للجامع أربعة أبواب . الباب الغربي يسمى باب البريد ، ويتألف من ثلاث مداخل صفحت درفاته بالنحاس في العهد المملوكي بالقرن الخامس عشر .
الباب الشمالي : ويسمى باب الفراديس ، ويطلق عليه اليوم باب العمارة تعلوه كتابة كوفية مزهرة من العهد السجلوقي .
الباب الشرقي : يعرب بباب جيرون ويسمى باب النوفرة أيضاً ، وهو محافظ على وضعه الأموي .
باب الزيادة : وهو الباب المفتوح من الجهة الجنوبية من الحرم .
وأهم ما يلفت النظر في صحن الجامع قبة الخزنة ، التي بنيت لوضع أموال المسلمين فيها ، شكلها مثمن قائمة على ثمانية أعمدة كورنثية الطراز جميلة التيجان ، زينت بالفسيفساء وما زال بعض أجزاء منها ماثلاً حتى اليوم . وصفها ابن جبير فقال : ( إن فسيفساء فيه الخزنة المتعددة الألوان أجمل من حديقة غناء ) .
الحرم :
يبلغ طوله 139 م وعرضه 37 م ويقسم رواق قاطع ممتد من الشمال إلى الجنوب حرم المسجد إلى قسمين متساويين ، وتقوم في وسط الحرم قبة كبيرة أسمها قبة النسر ترتفع قرابة / 36 / متراً محمولة على أربعة عضائد كبيرة فوقها رقبة مثمنة مزودة بالنوافذ ، تغطي الحرم ثلاثة سقوف سنامية الشكل ( جملونات ) من الخشب تمتد من الشرق إلى الغرب يقطعها في وسطها سقف الرواق القاطع الذي يعترضها .
للحرم نوافذ مفتوحة تمده بالضوء تقع في الجدارين الشمالي والجنوبي ، وقد وصف جمال هذه النوافذ ابن منقذ فيما يرويه ابن عساكر ، كما تحدث عنها ابن جبير ( 578 هـ / 1182 م ) وميز بين نوعين منها فهي زجاجية في الجدار الجنوبي ، جصية في الجدار الشمالي ، وقد زالت هذه النوافذ بسبب الحرائق التي أصابت الجامع ، جدد منها بعد الحريق ست شمسيات كبيرة ، ثلاثة فوق المحراب ، وثلاثة تقابلها في واجهة المجاز على نسق النوافذ في المباني العثمانية مثل التكية السليمانية .
وأهم ما يلفت النظر داخل الحرم المحاريب الأربعة ، ثلاثة منها قديمة وواحد حديث .
ففي الطرف الشرقي ، المحراب المالكي ، ثم يليه المحراب الحنفي وهو المحراب الحديث وفي أقصى الطرف الغربي المحراب الحنبلي ويليه المحراب الشافعي ، ويعد المحراب الحنفي المزين بالرخام والصدف والمرمر في غاية الإبداع والجمال .
ويقوم ضريح مهيب من الرخام في الطرف الشرقي من الحرم للنبي يحيى عليه السلام .
مآذن المسجد :
مئذنة العروس : تقوم في وسط الرواق الشمالي ، وقد أنشئت في عصر مليك شاه بين سنتي 570 – 580 هـ / 1074 – 1094 م ، ويعود قسمها السفلي إلى عهد الوليد بن عبد الملك .
مئذنة عيسى : تقوم في الزاوية الجنوبية الشرقية ، وقد شيدت فوق برج المعبد القديـم واحترقت وتهدمت مرات عديدة ، يرجع بناء قسمها السفلي للعهد المملوكي وقسمها العلوي إلى العهد العثماني .
المئذنة الغربية : تقع في الزاوية الجنوبية الغربية ، أقيمت أيضاً فوق برج قديم ، جددت في السنوات 580 هـ / 1184 م ، 803 هـ / 1400 م ، 893 هـ / 1488 م .
وتشيير الكتابة المنقوشة عليها أنها قد تجددت بعد الحريق الذي أصابها عام 884 هـ /1479 م وتم ذلك في عهد السلطان قايتباي عام 893 هـ /1488م ، وتعد المئذنة الغربية أجمل المآذن الثلاث .
فسيفساء الجامع الأموي
زينت جدران وأروقة وأقواس الجامع الأموي بالفسيفساء الجميلة في زمن الوليد بن عبد الملك وتتألف ألواح الفسيفساء هذه من فصوص صغيرة على شكل مكعبات من الزجاج الملون والمذهب وقطع من الصدف ، رصفت هذه الأجزاء الصغيرة إلى جانب بعضها البعض مؤلفة مواضيع زخرفية متناسقة على غاية من الدفة والإتقان ،.
يمتاز عمل فسيفساء الجامع الأموي عن جميع الأعمال التصويرية الجدارية الأخرى بموضوعاته وأسلوبـه الفنـي . أما موضوعاتـه فهي قصور ومنشآت وجسور وأبراج وأروقة محاطة بالأشجار ويقع أغلبها على حواف الأنهار والبرك ، ولا يوجد بين هذ المواضيع محل لأشخاص أو حيوانات .
وقد اختلف في تفسير هذه المواضيع . رأي يعتقد أن هذه الصور تمثل دمشق ونهر بردى . أما المؤرخ الجغرافي المقدسي فيقول أنها صورة العالم : ( ومن العسير أن تكون هناك شجرة أو مدينة لم تصور على تلك الجدران ) ؟ . ويرى ايتنهاوزن في كتابه في التصوير عند العرب : ( أنها تعبير عن قوة الإسلام وشموله أكبر رقعة في العالم ، وأن تعاليم الإسلام أدت إلى ظهور العصر الذهبي والفردوس على الأرض ) . ويرى غرابار في كتابه تكوين الفن الإسلامي : ( إن هذه الصور تعبير عن الجنة التي وعد الله بها المؤمنين الأتقياء ، والتي تهفو لها قلوب العرب الظامئة إلى فردوس الحياة ) .
وقد وصف المؤرخون والرحالة جمال الزخرفة والفن البديع الذي يزين الجامع ، منهم المسعودي الذي زار الجامع عام 332 هـ / 943 م ، كما كتب المهلبي في القرن الرابع عن فسيفساء الجامع ، ووصف المقدسي رحالة القرن الرابع الهجري الفسيفساء والرخام الذي كسيت به جدران المسجد .
وبقيت زخارف المسجد محتفظة بوضعها الأصلي إلى أن نحلت الكوارث بالجامع ، فتناثر رخامه وفسيفساؤه ، وفي كل مرة كانت تنهار أجزاء فنية منه حتى صار إلى ما هو عليه الآن ، ولولا الترميمي والإصلاح في العهود الماضية لما بقي لنا منه شيء ، وقد حفظ لنا الرواق الغربي بعض اللوحات الجميلة ، كما حفظ الرواق الشرقي في الزاوية الشمالية الشرقية قطعة فسيفساء قديمة وما تزال ثابتة في مكانها منذ بناء الجامع حتى يومنا هذا .
وتعتبر ألواح الفسيفساء في الجامع الأموي من أجمل وأهم الثروات الفنية الإسلامية في سورية .
وخلاصة القول إن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بإنشائه هذا المسجد قد أبدع مدرسة جديدة في تصميم بناء المساجد أسمها المدرسة الأموية ، التي اتسمت بالوضوح المعماري وتنوع الحجوم الفراغية ، وأوجد أجساماً معمارية لوظائف معينة ( المحراب ، المنبر ، المقصورة ) .
لقد أراد الوليد أن يتحدى في المسجد الأموي الحضارات السابقة للإسلام ، وأن يثبت للعالم آنذاك أن الإسلام قد غلب بقية الأمم ليس فقط سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً بل وحضارياً أيضاً